فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال مجد الدين الفيروزابادي:
بصيرة في الجزاء:
وهو الغَنَاءُ والكفاية والمكافأَة بالشيءِ وما فيه الكفاية من المقابلة إِنْ خيراً فخير وإِنْ شرّاً فشرٌّ.
وقد ورد في القرآن على ستَّة أَوجهٍ:
الأَوّل بمعنى: المكافأَة والمقابلة {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى} أَى تقابل.
الثَّانى بمعنى: الأَداءِ والقضاءِ {وَاتَّقُواْ يوماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} أَى لا تَقْضِى ولا تؤدّى.
الثالث بمعنى: الغُنْية والكفاية {وَاخْشَوْاْ يوماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً}.
الرَّابع بمعنى: العِوَض والبَدَل {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} أَى فبدلُه ومبدله.
الخامس: خَرَاج أَهل الذِّمّة {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} السَّادس بمعنى: ثواب الخير والشرّ {الْيوم تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ثمّ يختلف.
فالجزاءُ على الإِحسان {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} وجزاءُ السيئة {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} والجزاءُ على شكر النِّعم {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} وجزاءُ الصَّبر على البلاءِ والابتلاءِ {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيوم بِمَا صَبَرُواْ} {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ} وجزاء العمل الصَّالح وكسب الخيرات {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} {جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وجزاءُ كسب السيّئات وعمل المعاصى {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وجزاءُ الوَرَع والتَّقوى {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} وجزاءُ عَدَاوَةِ أَهل الحقّ {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} وجزاءُ القول الباطل {الْيوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقولونَ على اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} وجزاءُ الجامعين بين الإِساءَةِ والإِحسان {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى} وجزاءٌ على خزائن الخاص {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وجزاءٌ عطائىّ بلا واسطةِ عِلَّةٍ ووسيلةٍ عنديّة {جَزَاءً مِّن رَّبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً}.
وسمّيت ما يؤخذ من أَهل الذِّمة جزية للاجتزاءِ بها في حَقْنِ دمهم.
ويقال: جازيك فلان أَى كافيك.
قال بعض المفسّرين: لم يجئ إِلاَّ جَزَى دون جازى.
وذلك أَنّ المجازاة هي المكافأَة والمكافأَة مقابلة نعمةٍ بنعمةٍ هي كفؤها، ونعمة الله تتعالى عن ذلك.
ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأَة في الله تعالى. اهـ.

.تفسير الآيات (38- 40):

قوله تعالى: {يوم يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقال صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيوم الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يوم يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقول الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان هذا ربما أفهم سد باب الشفاعة عنده سبحانه، وكان الكلام إنما ينشأ من الروح، وكان الملائكة أقرب شيء إلى الروحية، أكد هذا المعنى مزيلاً ما قد يوهمه في الشفاعة سواء قلنا: إن الروح هنا جنس أم لا، فقال ذاكراً ظرف {لا يتكلمون} {يوم يقوم الروح} أي هذا الجنس أو خلق من خلق الله عظيم الشأن جدًّا.
قيل: هو الملك الموكل بالأرواح أو جبرائيل عليه السلام، أو القرآن المشار إليه بمثل قوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} [القدر: 4] {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا} [الشورى: 52] قاله ابن زيد {والملائكة} أي كلهم، ونبه بالاصطفاف على شدة الأمر فقال: {صفاً} للقاء ما في ذلك اليوم من شدائد الأهوال ولحفظ الثقلين وهم في وسط دائرة صفهم من الموج والاضطراب لعظيم ما هم فيه، ثم زاد الأمر عظماً بذكر العامل في لا يوم فقال: {لا يتكلمون} أي من تقدم كلهم بأجمعهم فيه بكلمة واحدة مطلق كلام خطاباً كان أي في أمر عظيم أو لا، لا له سبحانه ولا لغيره أصلاً ولا أحد منهم، ويجوز أن يكون هذا حالاً لهؤلاء الخواص فيكون الضمير لهم فغيرهم بطريق الأولى {إلا من أذن له} أي في الكلام إذناً خاصاً {الرحمن} أي الملك الذي لا تكون نعمه على أحد من خلقه إلا منه {وقال صواباً} فإن لم يحصل الأمر إن لم يقع الكلام من أحد منهم أصلاً، وهذا كالدليل على آية الخطاب بأنه إذا كان الروح والقريب منه بهذه المثابة في حال كل من حضره كان أحوج ما يكون إلى الكلام فما الظن بغيرهم؟ وهم في غيره كذلك بطريق الأولى وغيرهم فيه وفي غيره من باب الأولى، وأما في الدنيا فإنه وإن كان لا يتكلم أحد إلا بإذنه لكنه قد يتكلم بالخطأ.
ولما عظم ذلك اليوم بالسكوت خوفاً من ذي الجبروت {وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً} [طه: 108] أشار إليه بما يستحقه زيادة في عظمته فقال: {ذلك} أي المشار إليه لبعد مكانته وعظم رتبته وعلو منزلته {اليوم الحق} أي في اليومية لكونه ثابتاً في نفسه فلابد من كونه ولا زوال له ثوبتاً لا مرية فيه لعاقل وثابتاً كل ما أثبته وباطلاً كل ما نفاه.
ولما قرر من عظمته ما يعجز غيره عن أن يقرر مثله، وكان قد خلق القوى والقدر والفعل بالاختيار.
فكان من حق كل عاقل تدرع ما ينجى منه، سبب عن ذلك تنبيهاً على الخلاص منه وحثاً عليه قوله: {فمن شاء} أي الاتخاذ من المكلفين الذين أذن لهم {اتخذ} أي بغاية جهده {إلى ربه} أي خالقه نفسه المحسن إليه أو رب ذلك اليوم باستعمال قواه التي أعطاه الله إياها في الأعمال الصالحة {مآباً} أي مرجعاً هو المرجع مما يحصل له فيه الثواب بالإيمان والطاعة، فإن الله جعل لهم قوة واختياراً، ولكن لا يقدر أحد منهم على مشيئة شيء إلا بمشيئة الله.
ولما قدم في هذه السورة من شرح هذا النبأ العظيم ما قدم من الحكم والمواعظ واللطائف والوعد والوعيد، لخصه في قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب: {إنا} على ما لنا من العظمة {أنذرناكم} أي أيها الأمة وخصوصاً العرب بما مضى من هذه السورة وغيرها {عذاباً} ولما كان لابد من إتيانه وكونه سواء كان بالموت أو بالبعث، وكان كل ما تحقق إتيانه أقرب شيء قال: {قريباً}.
ولما حذر منه، عين وقته مشدداً لتهويله فقال: {يوم ينظر المرء} أي جنسه الصالح منه والطالح نظراً لامرية فيه {ما} أي الذي {قدمت يداه} أي كسبه في الدنيا من خير وشر، وعبر بهما لأنهما محل القدرة فكنى بهما عنها مع أن أكثر ما يعمل كائن بهما مستقلتين به أو مشاركتين فيه خيراً كان أو شراً.
ولما كان التقدير: فيقول المؤمن: يا ليتني قمت قبل هذا، عطف عليه قوله: {ويقول الكافر} أي العريق في الكفر عندما يرى من تلك الأهوال متمنياً محالاً: {يا ليتني كنت} أي كوناً لابد منه ولا يزول {تراباً} أي في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو في هذا اليوم فلم أعذب، والمراد به الجنس أو إبليس الذي تكبر عن السجود لآدم عليه السلام المخلوق من التراب، وعظم نفسه بالحمد والافتخار بكونه مخلوقاً من نار، يقول ذلك عندما يرى ما أعد الله لآدم عليه السلام ولخواص بنيه من الكرامة من النعيم المقيم، ولهذا المتكبر على خالقه من العذاب الدائم الذي لا يزول، وعن أبي هريرة وابن عمر رضى الله عنهم أن الله تعالى يقتص يوم البعث للبهائم بعضها من بعض ثم يقول لها: كوني تراباً، فتكون فيتمنى الكافر مثل ذلك.
فقد علم أن ذلك اليوم في غاية العظمة وأنه لابد من كونه، فعلم أن التساؤل عنه للتعجب من كونه من أعظم الجهل، فرجع آخرها على أولها، وانعطف مفصلها أي انعطاف على موصلها، واتصل مع ذلك بما بعدها أي اتصال، فإن المشرف بالنزع على الموت يرى كثيراً من الأهوال والزلازل والأوجال التي يتمنى لأجلها أنه كان منقطعاً عن لدنيا ليس له بها وصال يوماً من الأيام ولا ليلة من الليال- والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أحدًّا من الخلق لا يمكنه أن يخاطب الله في شيء أو يطالبه بشيء قرر هذا المعنى، وأكده فقال تعالى: {يوم يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقال صَوَابًا (38)}
وذلك لأن الملائكة أعظم المخلوقات قدراً ورتبة، وأكثر قدرة ومكانة، فبين أنهم لا يتكلمون في موقف القيامة إجلالاً لربهم وخوفاً منه وخضوعاً له، فكيف يكون حال غيرهم.
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
لمن يقول بتفضيل الملك على البشر أن يتمسك بهذه الآية، وذلك لأن المقصود من الآية أن الملائكة لما بقوا خائفين خاضعين وجلين متحيرين في موقف جلال الله، وظهور عزته وكبريائه، فكيف يكون حال غيرهم، ومعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا إذا كانوا أشرف المخلوقات.
المسألة الثانية:
اختلفوا في الروح في هذه الآية، فعن ابن مسعود أنه ملك أعظم من السموات والجبال.
وعن ابن عباس هو ملك من أعظم الملائكة خلقاً، وعن مجاهد: خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون، وليس بناس، وعن الحسن وقتادة هم بنو آدم، وعلى هذا معناه ذو الروح، وعن ابن عباس أرواح الناس، وعن الضحاك والشعبي هو جبريل عليه السلام، وهذا القول هو المختار عند القاضي.
قال: لأن القرآن دل على أن هذا الاسم اسم جبريل عليه السلام، وثبت أن القيام صحيح من جبريل والكلام صحيح منه، ويصح أن يؤذن له فكيف يصرف هذا الاسم عنه إلى خلق لا نعرفه، أو إلى القرآن الذي لا يصح وصفه بالقيام.
أما قوله: {صَفَّا} فيحتمل أن يكون المعنى أن الروح على الاختلاف الذي ذكرناه، وجميع الملائكة يقومون صفاً واحدًّا، ويجوز أن يكون المعنى يقومون صفين، ويجوز صفوفاً، والصف في الأصل مصدر فينبئ عن الواحد والجمع، وظاهر قول المفسرين أنهم يقومون صفين، فيقوم الروح وحده صفاً، وتقوم الملائكة كلهم صفاً واحدًّا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم، وقال بعضهم: بل يقومون صفوفاً لقوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22].
المسألةالثالثة:
الاستثناء إلى من يعود؟ فيه قولان:
أحدهما: إلى الروح والملائكة، وعلى هذا التقدير؛ الآية دلت على أن الروح والملائكة لا يتكلمون إلا عند حصول شرطين إحداها: حصول الإذن من الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] والمعنى أنهم لا يتكلمون إلا بإذن الله.
والشرط الثاني: أن يقول: صواباً،.
فإن قيل: لما أذن له الرحمن في ذلك القول، علم أن ذلك القول صواب لا محالة، فما الفائدة في قوله: {وَقال صَوَاباً}؟ والجواب من وجهين: الأول: أن الرحمن أذن له في مطلق القول ثم إنهم عند حصول ذلك الإذن لا يتكلمون إلا بالصواب، فكأنه قيل: إنهم لا ينطلقون إلا بعد ورود الإذن في الكلام، ثم بعد ورود ذلك الإذن يجتهدون، ولا يتكلمون إلا بالكلام الذي يعلمون أنه صدق وصواب، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة والعبودية الوجه الثاني: أن تقديره: لا يتكلمون إلا في حق {مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقال صَوَاباً} والمعنى لا يشفعون إلا في حق شخص أذن له الرحمن في شفاعته وذلك الشخص كان ممن قال صواباً، واحتج صاحب هذا التأويل بهذه الآية على أنهم يشفعون للمذنبين لأنهم قالوا صواباً وهو شهادة أن لا إله إلا الله، لأن قوله: {وَقال صَوَاباً} يكفي في صدقه أن يكون قد قال صواباً واحدًّا، فكيف بالشخص الذي قال القول الذي هو أصوب الأقوال وتكلم بالكلام الذي هو أشرف الكلمات القول الثاني: أن الاستثناء غير عائد إلى الملائكة فقط بل إلى جميع أهل السموات والأرض، والمقول الأول أولى لأن عود الضمير إلى الأقرب أولى.
واعلم أنه تعالى لما قرر أحوال المكلفين في درجات الثواب والعقاب، وقرر عظمة يوم القيامة قال بعده:
{ذَلِكَ اليوم الحق}
ذلك إشارة إلى تقدم ذكره، وفي وصف اليوم بأنه حق وجوه أحدها: أنه يحصل فيه كل الحق، ويندمغ كل باطل، فلما كان كاملاً في هذا المعنى قيل: إنه حق، كما يقال: فلان خير كله إذا وصف بأن فيه خيراً كثيراً، وقوله: {ذَلِكَ اليوم الحق} يفيد أنه هو اليوم الحق وما عداه باطل، لأن أيام الدنيا باطلها أكثر من حقها وثانيها: أن الحق هو الثابت الكائن، وبهذا المعنى يقال إن الله حق، أي هو ثابت لا يجوز عليه الفناء ويوم القيامة كذلك فيكون حقاً وثالثها: أن ذلك اليوم هو اليوم الذي يستحق أن يقال له يوم، لأن فيه تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، وأماأيام الدنيا فأحوال الخلف فيها مكتومة، والأحوال فيها غير معلومة.
قوله تعالى: {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ مَآباً} أي مرجعاً، والمعتزلة احتجوا به على الاختيار والمشيئة، وأصحابنا رووا عن ابن عباس أنه قال: المراد فمن شاء الله به خيراً هداه حتى يتخذ إلى ربه مآباً.
{إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يوم يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقول الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}.
ثم إنه تعالى زاد في تخويف الكفار فقال: {إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً} يعني العذاب في الآخرة، وكل ما هو آت قريب، و(هو) كقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يوم يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} [النازعات: 46] وإنما سماه إنذاراً، لأنه تعالى بهذا الوصف قد خوف منه نهاية التخويف وهو معنى الإنذار.
ثم قال تعالى: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما في قوله: {مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فيه وجهان الأول: أنها استفهامية منصوبة بقدمت، أي ينظر أي شيء قدمت يداه الثاني: أن تكون بمعنى الذي وتكون منصوبة ينتظر، والتقدير: ينظر إلى الذي قدمت يداه، إلا أن على هذا التقدير حصل فيه حذفان أحدهما: أنه لم يقل: قدمته، بل قال: {قَدَّمْتُ} فحذف الضمير الراجع الثاني: أنه لم يقل: ينظر إلى ما قدمت، بل قال: ينظر ما قدمت، يقام نظرته بمعنى نظرت إليه.
المسألة الثانية:
في الآية ثلاثة أقوال: الأول: وهو الأظهر أن المرء عام في كل أحد، لأن المكلف إن كان قدم عمل المتقين، فليس له إلا الثواب العظيم، وإن كان قدم عمل الكافرين، فليس له إلا العقاب الذي وصفه الله تعالى، فلا رجاء لمن ورد القيامة من المكلفين في أمر سوى هذين، فهذا هو المراد بقوله: {يوم يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} فطوبى له إن قدم عمل الأبرار، وويل له إن قدم عمل الفجار والقول الثاني: وهو قول عطاء: أن المر هاهنا هو الكافر، لأن المؤمن كما ينظر إلى ما قدمت يداه، فكذلك ينظر إلى عفو الله ورحمته وأما الكافر الذي لا يرى إلا العذاب، فهو لا يرى إلا ما قدمت يداه، لأن ما وصل إليه من العقاب ليس إلا من شؤم معاملته والقول الثالث: وهو قول الحسن، وقتادة أن المرء هاهنا هو المؤمن، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أنه تعالى قال بعد هذه الآية، {وَيَقول الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا} فلما كان هذا بياناً لحال الكافر، وجب أن يكون الأول بياناً لحال المؤمن والثاني: وهو أن المؤمن لما قدم الخير والشر فهو من الله تعالى على خوف ورجاء، فينتظر كيف يحدث الحال، أما الكافر فإنه قاطع بالعقاب، فلا يكون له انتظار أنه كيف يحدث الأمر، فإن مع القطع لا يحصل الانتظار.
المسألة الثالثة:
القائلون: بأن الخير يوجب الثواب والشر يوجب العقاب تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: لولا أن الأمر كذلك، وإلا لم يكن نظر الرجل في الثواب والعقاب على عمله بل على شيء آخر والجواب عنه: أن العمل يوجب الثواب والعقاب، لكن بحكم الوعد والجعل لا بحكم الذات.
أما قوله تعالى: {وَيَقول الكافر يا ليتني كُنتُ ترابا} ففيه وجوه: أحدها: أن يوم القيامة ينظر المرء أي شيء قدمت يداه، أما المؤمن فإنه يجد الإيمان والعفو عن سائر المعاصي على ما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} وأما الكافر فلا يتوقع العفو على ما قال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فعند ذلك يقول الكافر: {يا ليتني كُنتُ ترابا} أي لم يكن حياً مكلفاً وثانيها: أنه كان قبل البعث تراباً، فالمعنى على هذا.
يا ليتني لم أبعث للحساب، وبقيت كما كنت تراباً، كقوله تعالى: {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27] وقوله: {يومئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} [النساء: 42] وثالثها: أن البهائم تحشر فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها بعد المحاسبة: كوني تراباً فيتمنى الكافر عند ذلك أن يكون هو مثل تلك البهائم في أن يصير تراباً، ويتخلص من عذاب الله وأنكر بعض المعتزلة ذلك.
وقال: إنه تعالى إذا أعادها فهي بين معوض وبين متفضل عليه، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقطعها عن المنافع، لأن ذلك كالإضرار بها، ولا يجوز ذلك في الآخرة، ثم إن هؤلاء قالوا: إن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة أعواضها جعل الله كل ما كان منها حسن الصورة ثواباً لأهل الجنة، وما كان قبيح الصورة عقاباً لأهل النار، قال القاضي: ولا يمتنع أيضاً إذا وفر الله أعواضها وهي غير كاملة العقل أن يزيل الله حياتها على وجه لا يحصل لها شعور بالألم فلا يكون ذلك ضرراً ورابعها: ما ذكره بعض الصوفية فقال قوله: {يا ليتني كُنتُ ترابا} معناه يا ليتني كنت متواضعاً في طاعة الله ولم أكن متكبراً متمرداً وخامسها: الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون الشيء الذي احتقره حين قال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 76] والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. اهـ.